قصص قصيرة

في بلاد غريبة

أخذ يبتعد رويدًا رويدًا مُختلسًا بعض النظرات للخلفِ بين الفينةِ والأخرى؛ ليروي ظمأ عينيه بنظراتٍ أخيرةٍ لمنزله.
ثلاثة عقود من عمرِه مع جعبةٍ زاخرةٍ بالذكرياتِ طرحَها وراءَ ظهره رغبةً في الخلاصِ من شَظَفِ العيشِ وأملاً في فرصةٍ جديدةٍ لحياةٍ أفضل.
آخر من تبقَّى من شجرةِ العائلةِ التي تناثرت ثمارُهَا بين أسير في السجون، وغريق ازدرده البحرُ في طريقِه للهجرة، وضحية لأحد الصواريخ الغاشمة التي ما تلبث أنْ تسقطَ على هذا الحي أو ذاك حتي تدكَّه دكًا وتجعلَه هباءً منثورًا

طريق طويل.. أخذ يشقه وسطَ ركامِ المنازل، وحُطامِ السياراتِ، وأشلاء آدمية وحيوانية انتشرت وسطَ بِرَكٍ من الدماء.
كان يخطو خطى وئيدة، راسِفًا في أغلالِ الماضي يُشَاطرُه ضوءُ القمرِ طريقَه بعدَ أنْ أَوَت الشَّمسُ إلى مَضْجَعِها.
تطبق على عُنُقِه أصابع الشعورِ بالحنين... لا يوجد هناك وقت أشد حزنًا من تذكُّرِ تلك اللحظاتِ السَّعيدةِ حين يجتاحنا اليأس! زهور جفَّ ربيعُها ولم يبق منها سوى الأشواك، يحاول أن يحتفظَ بعبقها في مخيِّلته لتظلَّ دافئةً طوالَ حياتِه.

بدأت تظهر أخيرًا وجهته المنشودة بعد مشوارٍ مضنٍ؛ خيمة بسيطة مُغَطَّاة بقماشٍ مُهْترِئ.. يحتضنها ساحِلُ البحرِ المُفضي إلى شواطئِ أوروبا.
دلفَ إلى الخيمة، اشرأبَّت الأنظارُ إليه في قلقٍ وسَرَت هَمْهَمةٌ في المجلسِ قطعَها شابٌ مفتول العضلاتِ آذِنًا لضيفه بالجلوس.
لم يكنْ ذلك الشاب سوى قائد الزَّورقِ الذي سيُبْحِر بهم خارجِ البلادِ هربًا مِنْ الغُربَة بأوطانهم في عصرٍ غفلَ فيه أولي الأمرِ عن أحوالِ رعيَّتهم وانصرفوا إلى أهوائِهم وملذَّاتِهم.. عصر مادي جاف أصبحت فيه الغاياتُ تبرِّرُ كلَّ الوسَائل!
انتصفَ الليل، أمرَهُم القَائدُ بركُوبِ الزَّورقِ اسْتعدادًا للانطلاق.. وجوه كالحة تَلْفَحُها الحسرة، تعلوها سحابةٌ كثيفةٌ من الهمومِ تُمْطِر عليهم شتات ذكرياتهم، ويحْدُوها بَصيصٌ من الأملِ في غد مُشرِق، مزيج غريب تَسْري الحلاوةُ والمرارةُ منه إلى النَّفْسِ على قدمِ المساواة.
أخذَ يتفرَّس الوجوهَ وهو يُغالبُ دموعًا طَفَرَت من عينيه كلَّما حاول كبْحَها بالَغَت في الجموح.. الوقت يمر بطيئًا كأن عقربَ الثَّواني يلدغه في صَميمِ قَلبِه، والبحر تَصْطَخِب أمْواجُه، وتَهْدر أعْمَاقه، ويَنْتَشِر رَذَاذُه... وفي لمحِ البَصَر، ضَرَبَت مَوجةٌ عَاتِيَةٌ بأحلامِهم عُرْضَ الحائِط، وطَرَحَتهم جميعًا خارجَ الزَّورق!

أخذ يُصَارع الأمواج متحديًا شبح الموتِ الذي لاحَ بالأفق، مُتَمَسِّكًا قَدْر استطاعته بخيوطِ الأملِ التي راحَت تَتَضَعْضَع واحِدًا تلوَ الآخَر.. حتى خارَت قُواه وكلَّ جسدُه وغابَ وعيُه وتقاذفَته الأمواج.

على رمالِ أحد الشَّواطئ، أخذ وميضٌ من أشعَّةٍ ذهبيةٍ يتلألأ بعينين شرقيتين مُخَضَّبتينِ بالضيمِ والتَّشْرِيد، أبَى البحرُ أنْ يَضِنَّ عليهما بالحياة.. استجمَع قواه، وقفَ مُنتصبًا، أخذ يَنفض عن جسَدِه رمالَ الشَّاطئ، ومضى يُقابل مَصيرَه المجهول!
_____________
أبريل 2016

لقاء السحاب

جمعتنا الجيرة وكراسي المقهى العتيقة وطاولة وزوجان من أحجار النرد في لقاء يمثل الهُوّة السحيقة بين الجيل السابق والجيل الحالي، جيل أظهر شجاعته عبر مشاركته في الحروب، وجيل أظهر مؤخرته عبر بنطاله الساقط -على حد تعبيره-.
رجلٌ يزحف إلى السبعين من عمره، اشتعل رأسه شيبًا، وخلا فمه تقريبًا من الأسنان، وأصيب بقائمة من الأمراض على رأسها فيروس سي، مع شاب جامعي في العشرينيات من عمره، ضئيل الجسم.. هادئ الطبع.. مفعم بالأحلام والآمال.

كنت أجد فيه الناصح الأمين بعد وفاة والدي، وكان يجد فيّ الابن البار الذي لم ينجبه، نتقابل على المقهى الذي لم يكن يبارحه، نلعب الطاولة، وننسج الأحاديث التى كانت تتباين خيوطها بين جد وهزل.
لطالما تباعدت وجهات النظر، ولكن لا أذكر مرة اختلفنا فيها أكثر من تلك المرة.
كان ذلك بعد إعلان أحد أفراد القوات المسلحة عن جهاز يشخص ويشفي كلًا من فيروس سي والإيدز والسرطان والسكري والصدفية والشرايين التاجية، وذلك في لمح البصر!

_ أقسم لك أن هذا الجهاز موجود وسيعالج كل المرضى ويرد كيد الحاقدين أمثالك في نحورهم.
_ ألا يُبرئ هذا الجهاز الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله؟_إياك أن تهين القوات المسلحة مرة أخرى أيها الفتى.. ربما وجب عليك الذهاب للدفاع عن الحدود بنفسك!
_ من قال إنني أهين القوات المسلحة؟ لماذا تصر دائمًا على تحويل دفة الحديث لوجهة سياسية لا علمية؟
_.....
_ ألم تسمع من قبل عن العلامات السبعة للعلم المزيف التي وضعها العالم الأمريكي روبرت بارك؟
_كلّا.
_سأخبرك بها، لاحظ مدى تطابقها مع جهازك المزعوم!

العلامة الأولى: أن يُقدَّم البحث أو الاختراع للإعلام مباشرة ولا يقدم للمحافل العلمية.
العلامة الثانية: أن يزعم المبتكر أن دول العالم تريد سرقة فكرته، ويرفض الإدلاء بأي تفصيلات، ويبدأ الحديث عن المؤامرات. العلامة الثالثة :إجراء البحث منفردًا دون التعاون مع مؤسسات بحثية كبرى.
العلامة الرابعة: الاكتشاف يحاول تغيير مفاهيمنا لقوانين الطبيعة.
العلامة الخا....
_لابد أن "بارك" هذا صهيوني متآمر ضد مصلحة الدولة حتى لا تسترد قوتها، وما أفسد تفكيرك وغيّب عقلك إلا كتابات هؤلاء الملاعين.

هكذا كانت طبيعة الحوار دائمًا، لا يريد التملُّص من براثن التعصب الأعمى حتى لو كانت الحقيقة واضحة كالشمس، كل من يعارضه يتحول إلى متآمر من الطابور الخامس.
لم أكن أهتم لهلاوسه كثيرًا؛ فلطالما اعتبرتها آثارًا جانبية لنشارة الخشب التي يخلطها صاحب المقهى بالشاي، إلى أن بدأت ألاحظ ذبول جسده، وتغضّن وجهه، وخفوت بريق عينيه.
سألته عمّا أصابه؛ فأخبرني بأنه قد توقّف عن تعاطي الأدوية منتظرًا العلاج بذلك الجهاز!

_لا يوجد جهاز، ألم تفهم بعد؟
_الجهاز موجود وسيظهر في الموعد المحدد.. باقٍ من الزمن أقل من شهرين.
_لو كان موجودًا فلماذا يتأخر ظهوره سنة كاملة بعد الإعلان عنه؟_ حتى يتزامن مع حدوث ثورتنا المجيدة، ستكون ضربة قاصمة لكل للشامتين بالتأكيد!
_كيف لشخص غير متخصص في إحدى بقاع العالم الثالث أن يحقق ما عجزت عنه معامل الدول العظمى؟ هل ينهار القرص المُدمَج أمام قرص الطعمية؟
_صدق من قال إن "لا كرامة لنبي في وطنه" وستثبت الأيام من منا على صواب!

ويأبى القدر إلا أن يسخر من الذين يصمُّون أسماعهم عن نصح الناصحين، ويصرون أن يجترُّوا أخطاء أسلافهم، ويقدِّموا عقولهم على طبق من ذهب لإعلام بلا ضمير يعبث فيها كيف شاء، ويثبِّت بها أوتاد الجهل والخرافة، يعوِّدهم على ظلام الكذب؛ ليصيبهم نور الحقيقة بالعمى.
ها قد جاءت ذكرى الثورة، يحتفل البعض بذكراها في الميادين، ويقبع صاحبنا بغرفة العناية المركزة بعد تدهور صحته، يحاول التشبث بأهداب الحياة، في انتظاره زوجته وأقربائه، يرافقهم شبح الموت الذي يدنو منه رويدًا رويدًا، بينما أجلس أنا في المقهى ناظرًا إلى الكرسي الشاغر الذي كان يجلس عليه دومًا، أتناول كوبًا من الشاي الخالي من السكر -كما كان يفضِّله- منتظرًا جفاف سيلِ دموعي التي انهمرت سخية مغلَّفة بالشجن لمجرد رؤيته بتلك الحال المزرية، سائلًا نفسي.. كم من شخص ابتلع الطُعْم، وقصّ الواقع جناحي أحلامه؟
_____________
٢٣-١-٢٠١٧ ليلة امتحان خرسانة مسلحة.

رائحةُ الياسَمين

حين أحكم الليل إسدال أستاره معلنًا بداية رحلته على بساط الهدوء، كان الطبيب يغط في نوم عميق على فراشه الوثير، منتشيًا بالراحة تحت أغطيته الفاخرة والكون هاجع من حوله.. وإذا بدقات متوالية على باب شقته تُبدِّد حاجز الصمت. استيقظ الطبيب، وذهب ليعرف من يكون الطارق في ذلك الوقت.

فتح الباب بعينين شبه مغمضتين، كان الطارق شابًا نحيل الجسد على مشارف الثلاثين من عمره، تتوشى بشرته بالسُمرة، ووجهه مُرصَّع بعينين سوداوين غائرتين في محجريهما. رَثَّ الهيئة كان، حاول مرارًا ستر خروق حذائه البالي الذي لم يكن يرتدي تحته أي جوارب، ولكن بلا جدوى.
قبل أن يتفوه الطبيب بأي كلمة، عاجله الشاب بالاعتذار لقدومه في هذا الوقت المتأخر، وطلب منه أن يصطحبه للكشف على زوجته الحُبلى التي ألمَّت بها وعكة صحية. طلب منه الطبيب الدخول، ولكنه آثر الانتظار بالخارج.
طفق الطبيب يغسل وجهه ليطرد النعاس عن عينيه ثم ارتدى بدلة أنيقة عليها معطف ثقيل يقيه موجات البرد. مرَّت تلك الدقائق ثقيلة كئيبة على الشاب المسكين ثم انطلق كلاهما إلى الوجهة المنشودة.
مرَّت حوالي نصف الساعة، تولى فيها الشاب دفة الحديث، تحدث عن مدى أسفه لحال زوجته وابنة عمه، وشوقه لمولوده الأول، وعن شجرة عائلته التي تمتد جذورها لأعرق الأنساب، تحدَّث مليًا ولكن لم يعلق بذهن الطبيب سوى أنها ابنة عمه، كم يكره زواج الأقارب!

وصلا أخيرًا إلى بغيتهما، منزل متهالك بشارع صغير في أطراف المدينة، السلم مظلم.. ضيق، لا يكفي إلا لمرور شخص واحد.
صعد الشاب أولًا يليه الطبيب.. كانت درجات السلم قديمة متداعية، تعلوها طبقة سميكة من الأتربة الممزوجة بالطين جرَّاء المطر. ظل الطبيب يصعد بحذر كأنه يمشي على رمال متحركة، متوقعًا انهيار السلم مع كل درجة.
دلفا إلى الشقة القابعة على سطح المنزل، يحدوهما ضوء خافت صادر عن بعض الشموع التى يستخدمها أهل البيت فى الإضاءة.
الشقة عبارة عن حجرة واحدة، تكاد تخلو من الأثاث.. صينية عليها بضعة أطباق، وإناء فخاري لحفظ المياه، ومرآة صغيرة.. أو جزء من مرآة مهشمة إن صح التعبير، وأصيص به زهور من الياسمين تعبق الغرفة برائحتها. هذا هوعماد أثاث المنزل إذا أضفنا إليه عدة بطانيات تعلوها ملاءة تفترشها الزوجة البائسة.. هذا بالطبع هوالسرير!
لم يلبثت الطبيب أن فحص الزوجة التي بدت متعبة للغاية.. نحيلة ذابلة.. تمتلك ملامح مشابهة لزوجها الشاب.
صرَّح الطبيب بأن ما تعانيه هو ضعف نتيجة سوء التغذية. كان مشفقًا على ذلك الجنين، كيف سيعيش في هذا البيت الخَرِب برفقة هذا الأب المعدم؟
إن ترك المقادير تجري في أعنّتها، سيولد طفل مسكين، مشوَّه -غالبًا- لصلة القرابة بين الأبوين، فتكون النتيجة طفل مشوَّه يعيش حياة شوهاء، يتدثَّر باليأس، ويرتشف قطرات الفقر، ويتغذى على رقائق الذل والحرمان!

إبرة بسيطة تفي بالغرض، سيقوم بإجهاض هذا الجنين!وبدأ في تحضير الحقنة.
الآن هي جاهزة.. ليس عليه سوى تحريك إبهامه وينتهي ذلك الكابوس.
أنظار الزوجين منصبّة عليه وقد ملأها الترقُّب كأن على رؤوسهم الطير.. أغمض عينيه، أخذت قُشعريرة تسري في جسده، بدأ جبينه يندى بحبات العرق رغم برودة الجو، زخَّات من المطر ترتطم بالنافذة تختلط أصواتها بصوت مناجاته نفسه: «كيف أسلب الأرواح وقد كرَّست حياتي لانتشالها من براثن المرض؟ وأنَّى لي الحكم على مستقبل بإخفاق أو نجاح؟ أيضمن أحدنا أن يبقى على قيد الحياة لحظة واحدة؟».
كان قاب قوسين من إدخال الحقنة في موضعها بجسد الزوجة ولكنه أسقطها على أرضية الغرفة فتهشَّمت، بادره الشاب سائلًا:
- ماذا حدث؟
- لقد سقطت رغمًا عني! لا بأس سأستبدلها بغيرها.أجابه الطبيب وعلى شفتيه ظل ابتسامة بعد أن أودى بحياة تلك الحقنة اللعينة.
استبدلها بحقنة أخرى، ولكنها كانت حقنة ڤيتامينات هذه المرة، ونصح الزوجين بشراء عدة أدوية مقوية -دوَّن أسماءها على ورقة- كي تساعد الزوجة على استرداد عافيتها.
استأذن الطبيب للانصراف رافضًا تعاطي أي مبلغ مالي، فقد كان على وشك إزهاق روح لا توفيها حقها خزائن قارون.

عاد إلى منزله، حاول النوم مجددًا، ظلَّت صورة الزوجين أمام ناظريه، ترقرقت على وجنتيه بضع عَبراتٍ أطفأت نيران وخز ضميره؛ فراح على إثرها في نوم عميق.

ذات صباح، بعد أن دارت بالطبيب رحى السنين، وشقَّت على صفحة وجهه الأخاديد، بينما كان يرتشف قدحًا من القهوة ويقلِّب أوراق الصحيفة، استوقفه أحد الأخبار بالصفحة الأولى «وزارة الصحة تكرِّم الطبيبة جميلة فاروق الحبشي نظرًا لمجهوداتها في مجال تشوُّه الأجنَّة».
أخذ الطبيب يجيل نظراته في الصورة المرفقة بالخبر، طبيبة شابة مع والديها، بدت له وجوههم مألوفة، وأن هذا الاسم طرق مسامعه من قبل.
أخذ ينبش في ثنايا ذاكرته، راجعًا بقطار الزمن إلى الوراء قدر المستطاع، مصوِّبًا نظراته إلى تلك العينين السوداوين الغائرتين.

أجل.. لقد كانت ابنة ذلك الشاب الفقير التي كان سيحرمها الحياة منذ سنين خلَت، ظنَّ الطبيب أنه سيقتل زهرة في مهدها إن زرعها في صحراء الفقر، ولكن نسائم الأمل تسربت من شقوق جدران بيتها المتهالك فحوَّلت الزهرة إلى شجرة عظيمة وارفة الظلال.
أطلق تنهيدة حارة أذابت جدران الزمن؛ فأخذت لقطات متسلسلة من حياته تومض أمام عينيه، حياة كقدح القهوة الذي يقبض عليه بأصابعه، تتوارى الحلاوة في جنباتها برغم ما فيها من مرارة، لحنٌ طويل شاركت فيه مفاتيح البيانو، أبيضها وأسودها. غيوم من اليأس، وسُحب من الأمل، ووجوه عديدة، استوحش من بعضها وحنّ للآخر حتى توقف شريط الذكريات عند انعكاس وجه طبيب شاب على مرآة مهشمة في ليلة باردة، فأحس الطبيب أن العالم كله تفوح منه رائحة الياسمين.
_____________
7 مارس 2017

المُجمَّعة العشرية

قذفت بي أنامل الفقر المدقع إلى أحد مصانع الطوب، جنيهات قليلة كانت تبقينا على قيد الحياة، وتكفينا شر سؤال الناس بعد وفاة والدي.
أستيقظ مع أذان الفجر، مقاومًا رغبتي الشديدة في النوم، أحث الخطى في جنح الظلام حتى أصل للمصنع، وتبدأ دوامة العمل التي تنتهي عصرًا لأعود منهك القوى، ويرقد جنيهان ورقيان في جيبي باستكانة، أتحسسهما بين الحين والآخر خشية فقدانهما.

«أما لهذا العذاب من نهاية؟» أسائل نفسي كلما خلوت إليها، لم أقصد عذابي البدني، بل آلامي النفسية التى كنت أكابدها بوجود ذلك المشرف.
كان يدعى «كمال» ولكنه لم يمت للكمال بصلة، بل كانت النقيصة طبعه، والرذيلة شيمته. كان أميًا كحال سائر العمال، بينما كنت أنا طالبًا بالمرحلة الثانوية.
همس أحد العمال في أذني: «كمال ما بيحبكش عشان أنت المتنوَّر اللي فينا»، كنت أعلم ذلك علم اليقين، وكان ذلك جليًا من سوء معاملته لى.
توليت عملًا سهلًا في بداية عملي بالمصنع، وهو كنس الأرض من الحصى، والتخلُّص من الرمل والمونة الإسمنتية، فأسند كمال إليَّ أكثر الأعمال إرهاقًا؛ وهو تقليب المونة الإسمنتية حتى لا تجف، كان عملًا مضنيًا حقًا، يستمر طيلة النهار حتى لا تجف المونة، ينوء بهذه المهمة أولو القوة، فما بالك بصبي مثلي، هزيل الجسد تحرِّكه الرياح في أي اتجاه شاءت، ولكني تحملت صاغرًا، إلى أن جاء ذلك اليوم!

كنت ممسكًا بأحد الكتب أحاول استغلال دقائق الراحة في مذاكرة بضع صفحات، أثار المنظر حفيظة كمال، فانتزع الكتاب وقطعه إربًا.
أخذت أستعيد أشلاء الكتاب، وشتات كرامتي التى تساقطت شيئًا فشيئًا على أرضية المصنع بمرور الأيام، تهشَّمت الكلمات على طرف لساني فعجزت عن النطق، أعلنت استسلامي في المعركة ومضيت خارج المصنع بلا رجعة.

واجهت صفعات الحياة بصفحات الكتب، أذاكر على ضوء المصباح الغازي حتى يشحب وجهي، ويكل جسدي، وتظلم عيناي.
ظهرت النتيجة؛ مقبول بكلية الهندسة، ودخلت في دوامة أخرى...
أستيقظ فجرًا وألحق بالقطار، يتجسس النوم طريق أجفاني؛ فتظهر أمام ناظري وجوه إخوتي الصغار الذابلة، وأدوية والدتي المريضة، ومنزل من طابق واحد قديم متداعٍ مهدَّد بالسقوط يكسو غبار الفقر كل جزء فيه.
«التذكرة يا أستاذ» ينقذني الكمسري من خواطري، أظهر له تذكرتي، وأصوب نظراتي نحو الحقول عبْر الشباك المكسور وقد تلفَّعَت بملاءة كثيفة من الضباب. تلفحني بعض النسمات الباردة، أرنو إلى قرص الشمس الذي يبدأ في الاستيقاظ بعد سبات، أشعر به يبادلني نظرات وسنانة، تُذكِّرني بنظرات أمي وإخوتي المفعمة بالأمل في أن أنتشلهم من براثن الفاقة وصحراء اليأس. أشيح بنظري بعيدًا عن قرص الشمس في محاولة لسلوان أحزاني، أجيل النظر في ركاب القطار يمينًا ويسارًا، هل يقبل أحدهم أن يقايض حياته بحياتي؟ أتمنى ذلك!

أصل إلى الكلية، يطرق مسامعي ثغاء الزميلات وحديثهن حول ملابسي البالية؛ تمتد يدي بسرعة تخفى القَطع فينظر لي الزملاء شذرًا فتنشب نظراتهم في قلبي كالسهام.
أشعر بالدونية.. باليأس! عشرات الأحلام تتضاءل.. تنزوى.. يخفت بريقها ويوشك على الانطفاء.أريد أن أتوارى.. أتلاشى.. تتحول ياقتي البالية وحذائي الممزق ووجهي الشاحب إلى رماد.
ظل ذلك الإحساس مصاحبًا لي طوال شهور دراستي الجامعية الأولى، لم أعتد رؤية هذا الكم الهائل من البشر، وهذه المباني العملاقة في قريتنا الصغيرة.. قروي ساذج سحقته أضواء المدينة!
بمرور الوقت تأقلمت مع الوضع، لم تعد الهمسات والنظرات تضايقني، امتلأ قلبي بالسهام فلم تعد سهام نظراتهم تستطيع إليه سبيلًا، أو كما قال المتنبي: صرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال.
أدركت الحقيقة مؤخرًا؛ ما إن ينفرج باب القلب شيئًا يسيرًا لحزن عابر، حتى يندفع طوفان من الأحزان بلا هوادة؛ قرَّرت صفق مصراعي هذا الباب، والالتفات بجد إلى دراستي، أواجه صفعات الحياة بصفحات الكتب، أذاكر على ضوء المصباح الغازي حتى يشحب وجهي ويكل جسدي وتظلم عيناي.
ظهرت النتيجة؛ الأول!
كنت كذلك الجواد الذي سقط في قاع البئر فقرر صاحبه دفنه بعد أن أعجزه إنقاذه، كان يهيل عليه التراب فينفضه الجواد ويصعد فوقه؛ حتى صعد إلى قمة البئر.. يكيلون إلي النظرات والهمسات؛ فتزيدني قوة وإصرارًا.

انتهت سنوات الدراسة.. الأول!
انفرج ثغر الدنيا عن بسمة بعد أن نسيت شكل ابتسامتها، عُيِّنت مساعدًا بهيئة التدريس بالجامعة، تنافست الشركات على توقيع عقد عمل معي، انقشع الظلام وأضاءت الشمس حياتي.
عملت بالمجمعة العشرية؛ وهي اتحاد بين مجموعة شركات تأمين مختصة بدراسة الرسومات الهندسية، وذلك للموافقة على إصدار وثيقة تأمين للمباني المراد استخراج رخصة مبانٍ لها طبقًا لنص قانون المباني.
كانت مهمتي الأولى هي مقارنة الرسومات الهندسية لمصنع ما بما نُفِّذ على أرض الواقع.وصلت إلى المصنع، كان صاحب المصنع والمسؤولون وكبار العمال مصطفين في انتظاري. أخذت أقلب ناظري حتى تأكدت من وجوده، بدأ الشيب يغزو فوديه، وفقد كثيرًا من شعر رأسه، ولكنه هو.
قرأت قديمًا *أن ليس في أوقات الناس أجمل من اللحظة التى تسبق القبلة، ولا الساعة التي تسبق الخطبة، ولا الليلة التي تسبق الزفاف.. أضيف أيضًا تلك الفرصة التي تمنحك الحياة إياها للثأر!
كان ذلك المصنع هو ذات المصنع الذي عملت به صغيرًا وذبلت تحت سقفه زهرة صباي.تأكدت من وجود «كمال» في انتظاري، أسند إليه صاحب المصنع مهمة مصاحبتي أثناء العمل وتلبية مطالبي. كان يلاحقني كظلي حتى أنهيت عملي، رافقني إلى خارج المصنع، تردَّدت كثيرًا في تذكيره بنفسي، أزحت نظارتي الشمسية إلى الأعلى قليلًا وألقيت عليه نظرة بأسفل عيني سائلًا إياه:

_ إحنا ما اتقابلناش قبل كدة ؟
= تحصلنا ألف بركة يا سعادة الباشا.
_ طب خد الشنطة دي حطها في العربية.

كانت أشباح ذكرياتي تقيم مأدبتها الخاصة داخل عقلي مثيرة العديد من التساؤلات، أما كان من الأفضل إماطة اللثام عن شخصيتك والنيل من كرامته؟ تنهدت بارتياح.. التسامح يحتاج إلى قوة أكبر من الانتقام!
_____________
18 أغسطس 2017